فصل: تفسير الآيات (1- 8):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



{أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات.
أفلا يسمعون}؟.
ومصارع الغابرين من القرون تنطق بسنة الله في المكذبين، وسنة الله ماضية لا تتخلف ولا تحابي. وهذه البشرية تخضع لقوانين ثابتة في نشوئها ودثورها، وضعفها وقوتها. والقرآن الكريم ينبه إلى ثبات هذه القوانين، واطراد تلك السنن، ويتخذ من مصارع القرون، وآثار الماضين، الدارسة الخربة، أو الباقية بعد سكانها موحشة. يتخذ منها معارض للعبرة، وإيقاظ القلوب، وإثارة الحساسية، والخوف من بطش الله وأخذه للجبارين. كما يتخذ منها معارض لثبات السنن والنواميس. ويرفع بهذا مدارك البشر ومقاييسهم، فلا ينعزل شعب أو جيل في حدود الزمان والمكان؛ وينسى النظام الثابت في حياة البشر، المطرد على توالي القرون. وإن كان الكثيرون ينسون العبرة حتى يلاقوا نفس المصير!
وإن للآثار الخاوية لحديثاً رهيباً عميقاً، للقلب الشاعر، والحس المبصر، وإن له لرجفة في الأوصال، ورعشة في الضمائر، وهزة في القلوب. ولقد كان العرب المخاطبون بهذه الآية ابتداء يمشون في مساكن عاد وثمود ويرون الآثار الباقية من قرى قوم لوط. والقرآن يستنكر أن تكون مصارع هذه القرون معروضة لهم؛ وأن تكون مساكن القوم أمامهم، يمرون عليها ويمشون فيها؛ ثم لا يستجيش هذا قلوبهم، ولا يهز مشاعرهم، ولا يستثير حساسيتهم بخشية الله، وتوقي مثل هذا المصير؛ ولا يهدي لهم ويبصرهم بالتصرف المنجي من استحقاق كلمة الله بالأخذ والتدمير:
{إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون}..
يسمعون قصص الغابرين الذين يمشون في مساكنهم، أو يسمعون هذا التحذير، قبل أن يصدق بها النذير، ويأخذهم النكير!
وبعد لمسة البلى والدثور، وما توقعه في الحس من رهبة وروعة، وما تثيره في القلب من رجفة ورعشة. يلمس قلوبهم بريشة الحياة النابضة في الموات؛ ويجول بهم جولة في الأرض الميتة تدب فيها الحياة، كما جال بهم من قبل في الأرض التي كانت حية فأدركها البلى والممات:
{أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون}.
فهذه الأرض الميتة البور، يرون أن يد الله تسوق إليها الماء المحيي؛ فإذا هي خضراء ممرعة بالزرع النابض بالحياة. الزرع الذي تأكل منه أنعامهم وتأكل منه أنفسهم. وإن مشهد الأرض الجدبة والحيا يصيبها فإذا هي خضراء.. إن هذا المشهد ليفتح نوافذ القلب المغلقة لاستجلاء هذه الحياة النامية واستقبالها؛ والشعور بحلاوة الحياة ونداوتها؛ والإحساس بواهب هذه الحياة الجميلة الناضرة؛ إحساس حب وقربى وانعطاف؛ مع الشعور بالقدرة المبدعة واليد الصناع، التي تشيع الحياة والجمال في صفحات الوجود.
وهكذا يطوّف القرآن بالقلب البشري في مجالي الحياة والنماء، بعدما طوّف به في مجالي البلى والدثور، لاستجاشة مشاعره هنا وهناك، وإيقاظه من بلادة الألفة، وهمود العادة؛ ولرفع الحواجز بينه وبين مشاهد الوجود، وأسرار الحياة، وعبر الأحداث، وشواهد التاريخ.
وفي النهاية يجيء المقطع الأخير في السورة بعد هذا المطاف الطويل.

.سورة الأحزاب:

.تفسير الآيات (1- 8):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)}
هذه السورة تتناول قطاعاً حقيقياً من حياة الجماعة المسلمة، في فترة تمتد من بعد غزوة بدر الكبرى، إلى ما قبل صلح الحديبية، وتصور هذه الفترة من حياة المسلمين في المدينة تصويراً واقعياً مباشراً. وهي مزدحمة بالأحداث التي تشير إليها خلال هذه الفترة، والتنظيمات التي أنشأتها أو أقرتها في المجتمع الإسلامي الناشئ. والتوجيهات والتعقيبات على هذه الأحداث والتنظيمات قليلة نسبياً؛ ولا تشغل من جسم السورة إلا حيزاً محدوداً، يربط الأحداث والتنظيمات بالأصل الكبير. أصل العقيدة في الله والاستسلام لقدره. ذلك كافتتاح السورة: {يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليماً حكيماً واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيراً وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه..}.. وكالتعقيب على بعض التنظيمات الاجتماعية في أول السورة: {كان ذلك في الكتاب مسطوراً وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذاباً أليماً}.. والتعقيب على موقف المرجفين يوم الأحزاب التي سميت السورة باسمها. {قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذن لا تمتعون إلا قليلاً قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً} ومثل قوله في صدد أحد التنظيمات الاجتماعية الجديدة، المخالفة لمألوف النفوس في الجاهلية: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} وأخيراً ذلك الإيقاع الهائل العميق: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً} ولهذه الفترة التي تتناولها السورة من حياة الجماعة المسلمة سمة خاصة، فهي الفترة التي بدأ فيها بروز ملامح الشخصية المسلمة في حياة الجماعة وفي حياة الدولة؛ ولم يتم استقرارها بعد ولا سيطرتها الكاملة. كالذي تم بعد فتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجاً، واستتباب الأمر للدولة الإسلامية، وللنظام الإسلامي.
والسورة تتولى جانباً من إعادة تنظيم الجماعة المسلمة، وإبراز تلك الملامح وتثبيتها في حياة الأسرة والجماعة؛ وبيان أصولها من العقيدة والتشريع؛ كما تتولى تعديل الأوضاع والتقاليد أو إبطالها؛ وإخضاعها في هذا كله للتصور الإسلامي الجديد.
وفي ثنايا الحديث عن تلك الأوضاع والنظم يرد الحديث عن غزوة الأحزاب، وغزوة بني قريظة، ومواقف الكفار والمنافقين واليهود فيهما، ودسائسهم في وسط الجماعة المسلمة، وما وقع من خلخلة وأذى بسبب هذه الدسائس وتلك المواقف. كما تعرض دسائسهم وكيدهم للمسلمين في أخلاقهم وآدابهم وبيوتهم ونسائهم.
ونقطة الاتصال في سياق السورة بين تلك الأوضاع والنظم وهاتين الغزوتين وما وقع فيهما من أحداث، هي علاقة هذه وتلك بمواقف الكافرين والمنافقين واليهود؛ وسعي هذه الفئات لإيقاع الاضطراب في صفوف الجماعة المسلمة. سواء عن طريق الهجوم الحربي والإرجاف في الصفوف والدعوة إلى الهزيمة؛ أو عن طريق خلخلة الأوضاع الاجتماعية والآداب الخلقية.. ثم ما نشأ من الغزوات والغنائم من آثار في حياة الجماعة المسلمة تقتضي تعديل بعض الأوضاع الاجتماعية والتصورات الشعورية؛ وإقامتها على أساس ثابت يناسب تلك الآثار التي خلفتها الغزوات والغنائم في واقع الجماعة المسلمة.
ومن هذا الجانب وذاك تبدو وحدة السورة، وتماسك سياقها، وتساوق موضوعاتها المنوعة. وهذا وذلك إلى جانب وحدة الزمن التي تربط بين الأحداث والتنظيمات التي تتناولها السورة.
تبدأ السورة ذلك البدء بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تقوى الله وعدم الطاعة للكافرين والمنافقين، واتباع ما يوحي إليه ربه، والتوكل عليه وحده. وهو البدء الذي يربط سائر ما ورد في السورة من تنظيمات وأحداث بالأصل الكبير الذي تقوم عليه شرائع هذا الدين وتوجيهاته. ونظمه وأوضاعه، وآدابه وأخلاقه.. أصل استشعار القلب لجلال الله، والاستسلام المطلق لإرادته؛ واتباع المنهج الذي اختاره، والتوكل عليه وحده والاطمئنان إلى حمايته ونصرته.
وبعد ذلك يلقي بكلمة الحق والفصل في بعض التقاليد والأوضاع الاجتماعية. مبتدئاً بإيقاع حاسم يقرر حقيقة واقعة: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه}.. يرمز بها إلى أن الإنسان لا يملك أن يتجه إلى أكثر من أفق واحد، ولا أن يتبع أكثر من منهج واحد، وإلا نافق، واضطربت خطاه. وما دام لا يملك إلا قلباً واحداً، فلابد أن يتجه إلى إله واحد وأن يتبع نهجاً واحداً؛ وأن يدع ما عداه من مألوفات وتقاليد وأوضاع وعادات.
ومن ثم يأخذ في إبطال عادة الظهار وهو أن يحلف الرجل على امرأته أنها عليه كظهر أمه فتحرم عليه حرمة أمه: {وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم}. ويقرر أن هذا الكلام يقال بالأفواه ولا ينشئ حقيقة وراءه، بل تظل الزوجة زوجة ولا تصير أماً بهذا الكلام.. ويثني بإبطال عادة التبني وآثاره: {وما جعل أدعياءكم أبناءكم} فلا يعودون بعد اليوم يتوارثون، ولا تترتب على هذا التبني آثاره الأخرى (التي سنفصل الحديث عنها فيما بعد). ويستبقي بعد ذلك أو ينشئ الولاية العامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على المؤمنين جميعاً، ويقدم هذه الولاية على ولايتهم لأنفسهم؛ كما ينشئ صلة الأمومة الشعورية بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وجميع المؤمنين: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم}.. ثم يبطل آثار المؤاخاة التي تمت في أول الهجرة؛ ويرد الأمر إلى القرابة الطبيعية في الإرث والدية وما إليها: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين}.
وبذلك يعيد تنظيم الجماعة الإسلامية على الأسس الطبيعية ويبطل ما عداها من التنظيمات الوقتية.
ويعقب على هذا التنظيم الجديد، الذي يستمد من منهج الإسلام وحكم الله؛ بالإشارة إلى أن ذلك مسطور في كتاب الله القديم، وإلى الميثاق المأخوذ على النبيين، وعلى أولي العزم منهم بصفة خاصة. على طريقة القرآن في التعقيب على النظم والتشريعات، والمبادئ، والتوجيهات، لتقر في الضمائر والأخلاد.
وهذا هو إجمال الشوط الأول في السورة.
ويتناول الشوط الثاني بيان نعمة الله على المؤمنين، إذ رد عنهم كيد الأحزاب والمهاجمين. ثم يأخذ في تصوير وقعتي الأحزاب وبني قريظة تصويراً حياً، في مشاهد متعاقبة، ترسم المشاعر الباطنة، والحركات الظاهرة، والحوار بين الجماعات والأفراد. وفي خلال رسم المعركة وتطوراتها تجيء التوجيهات في موضعها المناسب؛ وتجيء التعقيبات على الأحداث مقررة للمنهج القرآني في إنشاء القيم الثابتة التي يقررها للحياة، من خلال ما وقع فعلاً، وما جاش في الأخلاد والضمائر.
وطريقة القرآن الدائمة في مثل هذه الوقائع التي يتخذ منها وسيلة لبناء النفوس، وتقرير القيم، ووضع الموازين وإنشاء التصورات التي يريد لها أن تسود.. طريقة القرآن في مثل هذه الوقائع أن يرسم الحركة التي وقعت، ويرسم معها المشاعر الظاهرة والباطنة، ويسلط عليها الأضواء التي تكشف زواياها وخباياها. ثم يقول للمؤمنين حكمه على ما وقع، ونقده لما فيه من خطأ وانحراف، وثناءه على ما فيه من صواب واستقامة، وتوجيهه لتدارك الخطأ والانحراف، وتنمية الصواب والاستقامة. وربط هذا كله بقدر الله وإرادته وعمله ونهجه المستقيم، وبفطرة النفس، ونواميس الوجود.
وهكذا نجد وصف المعركة يبدأ بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً} ويتوسطها قوله. {قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذن لا تمتعون إلا قليلا قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً} وبقوله: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً} ويختمها بقوله: {ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفوراً رحيماً} وهذا إلى جانب عرض تصورات المؤمنين الصادقين للموقف، وتصورات المنافقين والذين في قلوبهم مرض عرضاً يكشف عن القيم الصحيحة والزائفة من خلال تلك التصورات: {وإذا يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً} {ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً} ثم تجيء العاقبة بالقول الفصل والخبر اليقين:
{ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً} بعد ذلك يجيء قرار تخيير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللواتي طالبنه بالتوسعة في النفقة عليهن بعدما وسع الله عليه وعلى المسلمين من فيء بني قريظة العظيم وما قبله من الغنائم. تخييرهن بين متاع الحياة الدنيا وزينتها وإيثار الله ورسوله والدار الآخرة. وقد اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، ورضين هذا المقام الكريم عند الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وآثرنه على متاع الحياة. ومن ثم جاءهن البيان عن جزائهن المضاعف في الأجر إن اتقين وفي العذاب إن ارتكبن فاحشة مبينة. وعلل هذه المضاعفة بمقامهن الكريم وصلتهن برسول الله صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن في بيوتهن وتلاوته، والحكمة التي يسمعنها من النبي صلى الله عليه وسلم واستطرد في بيان جزاء المؤمنين كافة والمؤمنات.
وكان هذا هو الشوط الثالث.
فأما الشوط الرابع فتناول إشارة غير صريحة إلى موضوع تزويج زينب بنت جحش القرشية الهاشمية بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من زيد بن حارثة مولاه. وما نزل في شأنه أولاً من رد أمر المؤمنين والمؤمنات كافة إلى الله، ليس لهم منه شيء، وليس لهم في أنفسهم خيرة. إنما هي إرادة الله وقدره الذي يسير كل شيء، ويستسلم له المؤمن الاستسلام الكامل الصريح: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً}..
ثم يعقب حادث الزواج حادث الطلاق؛ وما وراءه من إبطال آثار التبني، الذي سبق الكلام عليه في أول السورة. إبطاله بسابقة عملية؛ يختار لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشخصه، لشدة عمق هذه العادة في البيئة العربية، وصعوبة الخروج عليها. فيقع الابتلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملها فيما يحمل من أعباء الدعوة وتقرير أصولها في واقع المجتمع، بعد تقريرها في أعماق الضمير: {فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً وكان أمر الله مفعولاً} وبهذه المناسبة يوضح حقيقة العلاقة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كافة: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين} ويختم هذا الشوط بتوجيهات للرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين.. {ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً} ويبدأ الشوط الخامس ببيان حكم المطلقات قبل الدخول. ثم يتناول تنظيم الحياة الزوجية للنبي صلى الله عليه وسلم فيبين من يحل له من النساء المؤمنات ومن يحرمن عليه.